الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (68): {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)}{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا} بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم في أنديتهم وهم المراد بالموصول. وعن مجاهد أهل الكتاب فإن ديدنهم ذلك أيضًا، ولذا أتى بإذا الدالة على التحقيق، وهذا بخلاف النسيان الآتي، وأصل الخوض من خاض القوم في الحديث وتخاوضوا إذا تفاوضوا فيه، وقال الطبرسي: «الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللعب وترك التفهم والتبيين»، وقال بعض المحققين: أصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن للذم.{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي أتركهم ولا تجالسهم {حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ} أي كلام {غَيْرُهُ} أي غير آياتنا. والتذكير باعتبار كونها حديثًا فإن وصف الحديث غايرتها مشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية، وقيل: باعتبار كونها قرآنًا. والمراد بالخوض هنا التفاوض لا بقيد التكذيب والاستهزاء. وادعى بعضهم أن المعنى حتى يشتغلوا بحديث غيره وأن ذكر {يَخُوضُواْ} للمشاكلة، واستظهر عود الضمير إلى الخوض. واستدل بعض العلماء بالآية على أن {إِذَا} تفيد التكرار لحرمة القعود مع الخائض كلما خاض، ونظر فيه بأن التكرار ليس من إذا بل من ترتب الحكم على مأخذ الاشتقاق. واستدلال بعض الحشوية بها على النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته زاعمًا أن ذلك خوض في آيات الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} بأن يشغلك فتنسى الأمر بالإعراض عنهم فتجالسهم ابتداء أو بقاء، وهذا على سبيل الفرض إذ لم يقع وأنى للشيطان سبيل إلى إشغال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا عبر بأن الشرطية المزيدة ما بعدها. وذهب بعض المحققين أن الخطاب هنا وفيما قبل لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمراد غيره، وقيل: لغيره ابتداء أي إذا رأيت أيها السامع وإن أنساك أيها السامع والمشهور عن الرافضة اختيار أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عن النسيان لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] وأن غيرهم ذهب إلى جوازه وعلى نسبة الأول إليهم نص صاحب الأحكام والجبائي وغيرهما. وقال الأخير: إن الآية دليل على بطلان قولهم ذلك. والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنهم لا يجوزون النسيان، وكذا السهو على النبي صلى الله عليه وسلم وكذا على سائر الأنبياء عليهم السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي، وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه الصلاة والسلام أن ينساه ما لم يؤد إلى إخلال الدين.وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفصيل الكلام في ذلك على ما في معتبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع وهو ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، ثم قال الأكثرون يشترط تنبهه عليه الصلاة والسلام على الفور متصلًا بالحادثة ولا يقع فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلى الله عليه وسلم واختاره إمام الحرمين، ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلى الله عليه وسلم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك.وإليه مال الأستاذ أبو إسحق الإسفرائيني، وصحح النووي الأول فإن ذلك لا ينافي النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام.وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوزه الجمهور. وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فيجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه، ثم قال: والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال: يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم السلام في كل خبر من الأخبار كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدًا ولا سهوًا لا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سِيَره صلى الله عليه وسلم وكلامه وأفعاله مجموعة يعتنى بها على مر الزمان ويتناولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة والسلام عنها واستدراكه رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك. وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية. وقرأ ابن عامر {يُنسِيَنَّكَ} بتشديد السين ونسي عنى أنسى، وقال ابن عطية: نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون التوكيد، والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد أن الشرطية المصحوبة بما الزائدة، وقيل: لا يلزم فيه ذلك، وعليه قول ابن دريد:{فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} أي بعد تذكر الأمر بالإعراض كما عليه جمهور المفسرين. وقال أبو مسلم: المعنى بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ونهيك لهم عن الخوض في الآيات وليس بشيء. وجوز الزمخشري أن تكون {الذكرى} عنى تذكير الله تعالى إياه وأن المعنى «وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه»، ولا يخفى أنه وجه بعيد مبني على قاعدة القبح والحسن التي هدمتها معاول أفكار العلماء الراسخين، ثم إنا لا نسلم أن مجالسة المستهزئين مما ينكره العقول مطلقًا، وذكر ابن المنير أن اللائق على ما قال وإن أنساك دون {أَمَّا يُنسِيَنَّكَ} على أن إنساء الشيطان إن صح فعن السمعي أيسر، وليس هذا أول خوض من الزمخشري في تأويل الآيات بل ذلك دأبه.{مَعَ القوم الظالمين} أي معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعيًا عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء، موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك، وفي الآية كما قال غير واحد إيذان بعدم تكليف الناسي، وهذه من المسائل المتنازع فيها بينهم وعنونوها سألة تكليف الغافل وعدوا منه الناسي وللأشعري فيها قولان وصوب عدم التكليف لعدم الفائدة فيه أصلًا بخلاف التكليف بالمحال. ونقل ابن برهان في الأوسط عن الفقهاء القول بصحة تكليفه على معنى ثبوت الفعل بالذمة، وعن المتكلمين المنع إذ لا يتصور ذلك عندهم، وقد يظن أن الشافعي لنصه على تكليف السكران يرى تكليف الغافل وهو من بعض الظن فإنه إنما كلف السكران عقوبة له لأنه تسبب حرم حصل باختياره ولهذا وجب عليه الحد بخلاف الغافل. وأورد على القول بالامتناع أن العبد مكلف عرفة الله تعالى بدون العلم بالأمر وذلك لأن الأمر عرفته سبحانه وارد فلا جائز أن يكون واردًا بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل فيكون واردًا قبله فيستحيل الإطلاق على هذا الأمر لأن معرفة أمره تعالى بدون معرفته سبحانه مستحيل فقد كلف معرفة الله تعالى مع غفلته عن ذلك التكليف.وأجيب: بأن المعرفة الإجمالية كافية في انتفاء الغفلة والمكلف به هو المعرفة التفصيلية أو بأن شرط التكليف إنما هو فهم المكلف له بأن يفهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق بتكليفه وإلا لزام الدور وعدم تكليف الكفار وهو هنا قد فهم ذلك وإن لم يصدق به. وصاحب «المنهاج» تبعًا لصاحب «الحاصل» أجاب بأن التكليف عرفة الله تعالى خارج عن القاعدة بالإجماع، وتمام البحث يطلب من كتب الأصول. .تفسير الآية رقم (69): {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}{وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ} قال أبو جعفر عليه الرحمة: لما نزلت {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} [الأنعام: 68] إلخ قال المسلمون لئن كنا نقوم كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت فنزلت، أي وما يلزم الذين يتقون قبائح أعمال الخائضين وأحوالهم. {مِنْ حِسَابِهِم} أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من الجرائر {مِن شَيْء} أي شيء ما على أن من زائدة للاستغراق و{شَيْء} في محل الرفع مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية و{مِنْ حِسَابِهِم} كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالًا. وليست {مِنْ} عنى الأجل خلافًا لمن تكلفه. و{عَلَى الذين يَتَّقُونَ} متعلق حذوف مرفوع وقع خبرًا للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر المقدم مطلقًا أو منصوب وقع خبرًا لما على رأي من يجوز إعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفًا أو حرف جر.{ولكن ذكرى} استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير، ومحل {ذِكْرِى} عند كثير من المحققين إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيرًا أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى، وجوز أبو البقاء النصب والرفع أيضًا لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى بنون العظمة، وفي الثاني هذه ذكرى، وإلى ذلك يشير كلام البلخي، ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل {مِن شَيْء} لأن من حسابهم يأباه إذ يصير المعنى: ولكن ذكرى من حسابهم وهو كما ترى.واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف، والعلامة الثاني يقول: إنه إذا عطف مفرد على مفرد لاسيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف ألبتة بحكم الاستعمال تقول: ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكبًا أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون من القوم ألبتة ولم يجيء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب، قالوا: والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأن هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزأ من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله تعالى: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً فَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] على ما في شرح المفتاح، وهذا إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك: جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش.وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض المحققين مما يقتضيه الذوق، ومنهم من عمها كما قال الحلبي: إن أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف للتشريك في الظاهر فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت: ضربت زيدًا يوم الجمعة وعمرًا فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب مقيدًا بيوم الجمعة. وإذا قلت: وعمرًا يوم السبت لم يشاركه في قيده والآية من القبيل الأول فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي في المنع وبحث فيه السفاقسي وغيره فتدبر. ومن منع العطف على محل {مِن شَيْء} لما تقدم منع العطف على {شَيْء} لذلك أيضًا ولأن من لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الإثبات في غير الظروف أو مطلقًا عند الجمهور.{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. وجوز أن يكون الضمير للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو ليزدادوا تقوى بذلك. وهذه الآية كما أخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبو الشيخ عن السدي وابن جبير منسوخة بقوله تعالى النازل في المدينة {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا} [النساء: 140] إلخ وإليه ذهب البلخي والجبائي وفي «الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ» أنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه: {وَمَا عَلَى الذين} إلخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم.
|